عن محمد بن كعب القرظي أن رسول الله عليه السلام قال : ( منزلة المؤمن من أهل الإيمان كمنزلة الرأس من الجسد يألم المؤمن لما أصاب أهل الإيمان كما يألم الجسد لما أصاب الرأس . ) [الجامع في الحديث : عبد الله بن وهب بن مسلم القرشي أبو محمد المصري . تحقيق د . مصطفى حسن حسين أبو الخير .الناشر دار ابن الجوزي . سنة النشر 1996م . مكان النشر السعودية .عدد الأجزاء 2. 1/251] توطئة :إنّ المؤمن في رحاب المجتمع الإسلامي يتبوأ مكانة لها شأن,وأي شأن! وما سمعنا بغير المؤمن سما إلى هذه المكانة في أيّة أمة من الأمم , وذلك عائد لسبب بسيط هو : أنّ المؤمن قائده إيمانه بخالقه ومولاه عز وجلّ ومن ثم حبّه لله ورسوله ولإخوانه المؤمنين,مستلهماً المنهج الراقي الّذي أكرمه به الله تعالى الّذي يعلم عنه كل شيء . وأمّا الّذي ندّ عن طريق الإيمان , فتقوده المصالح الماديّة البحتة , فهو أناني لا يهمّه إلاّ نفسه ولا همّ له وراء ذلك . وواقع الأسرة في المجتمعات غير الإسلامية , شاهد عيان على ذلك وفي كلّ الأحوال من أراد أن يعرف أكثر عن أنانية المجتمع المادي وحرصه على المصالح , فلينظر بموضوعية إلى لون التعامل مع قضايا الأمة الإسلامية في إطار ما ينعت بالأسرة الدولية , فهو قائم على ازدواجية المعايير وسياسة الكيل بمكيالين . نظرات في الحديث النبوي : الحديث على إيجازه , غني بأسمى المعاني , من حيث يسلّط الضوء على أمر له أهميّته , وهو شعور المؤمن وإحساسه بحال أخيه المؤمن , فهو يتألّم لألمه أشدّ الألم مهما كان لون البلاء الّذي ابتلي به خوف أو جوع أو قحط وجدب , فقر وقلّة ذات يد , أو مرض ألزمه الفراش . فهذه الابتلاءات ذكرها الحق عزّ وجلّ في قوله تعالى : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ . ) البقرة (156-155) . فالله تعالى إنّما شاءت إرادته أن يبتلي عباده عامة والمؤمنين خاصّة بهذه الألوان من البلاء وغيرها , لا من أجل أن يعذبهم ويرهقهم, وإنّما هو اختبار للحس الإيماني لدى إخوانهم , الّذين عافاهم الله من البلاء . هنا ندرك سر المكانة السامية الّتي ارتقى إليها المؤمن كما يلمع إليها الحديث , وهي أنّه مع مجموع أبناء الأمة بمثابة رجل واحد إذا أحس بالألم في رأسه سرى إلى كل بدنه وتتوسع مساحة هذا الإحساس الراقي الّذي أثمره الإيمان الصادق , فتتحطم كل الحدود والحواجز , التي قطّعت أوصال الأمة , وجعلتها مزقاً على الأرض , وأمّا في عالم الحس الإيماني فلا , فوحدة الأحاسيس الإيمانية الصادقة لا سلطان عليها , لمن يتربصون بهذه الأمة , ويكيدون لها أمكر ألوان الكيد , بكل ما أوتوا من قوة . فوائد وشواهد من الواقع : أ- الفوائد : 1- منزلة المؤمن أي في الدنيا بين أخوته المؤمنين خلع الحديث عليها صورة تجذب الانتباه ( بمنزلة الرأس من الجسد ) والرأس مجمع قيادة القوى والطاقات التّي أودعت فينا بفضل الله , فإنسان بلا رأس لاشيء ألبتة . ومجتمع فاقد للحس الإيماني , مجتمع ضعيف خرب ,لا قيمة له في منهج كمّل المؤمنين . 2- شعور المؤمن بحال أخيه مهما تباعدت المسافات وتألّمه لألمه خير دليل على تعاضد الأمة وتماسكها ورسوخ ذلك يعود بالخير على الأمة . 3- الرأس مصدر الإحساس بالجوع والألم جسدياً , وكذلك مصدر الشعور بألم الفقر , والمرض , وآثار الحروب وما تلحقه من دمار وهنا لا يكفي مجرّد الإحساس الداخلي رغم أهميّته بل لابد من ترجمته واقعاً عمليّاً , يتمثل بالعون المالي بكل وجوهه , يقدّمه المؤمن لإخوانه المؤمنين , على كلّ المستويات ,أفراداً ومؤسسات ودول . فمجرّد الشعور لا يرفع الماً ولا يخفف مصاباً . 4- يلمع الحديث إلى طبيعة المجتمع الإيماني فهو حافل بالحركة , كخليّة النحل كلّ منصرف إلى عمل ما يؤديه بإتقان خدمة لأمته , ومع الألم وزحف البلاء يفقد المجتمع قدراً من طاقات أفراده فيملي ذلك الإحساس بهم على الآخرين إعانتهم ليعودوا إلى المجتمع من جديد بطاقات متجددة . 5- هذا الحس الإيماني بألم الآخر في كل أصقاع الأرض لا ينحصر بفئوية أو إقليمية أو عنصرية أو عشائرية , بل له صفة العموم والشمول . وهنا نختم الحديث عن الفوائد , لنضي معاً إلى الحديث عن الشواهد المستوحاة من الواقع القائم . ب- الشواهد : رأيت أنّه من المفيد , وأنا أجيل الطرف في أمداء هذه الروضة النبوية ,ممتعاً النفس بتلك الأصداء المنبعثة من وراء حروف كلمات الحبيب المصطفى , أن أعرض هنا طائفة من الوقائع العملية مما رأيت أو سمعت تقيم الدلائل على ذلك الحس الإيماني , الّذي يملأ كيان المؤمن, حيث يألم لألم أخيه بعيداً عن الحدود والمسافات : 1- في قرية كنت أعمل في مدرستها معلّماً تواترت الأخبار باحتراق محل كبير في القرية يعوّل عليه أهلها في سدّ حاجاتهم اليومية , رأيت المحل المحترق , إنّه رماد , كل شيء فيه احترق حتى المال . هبّت القرية كلّها بكل أطيافها رجالاً ونساء وشباباً وهرعوا صباحاً إلى مكان الحريق وماهي إلاّ ساعات حتى تمّ إزالة آثار الحريق , ونظّف المحل , وفي اليوم التالي أعيد طلاء جدرانه بالدهان , وخلال أسبوع أصبح المحلّ جاهزاً للاستخدام , وبدأت أهل القرية بحملة جمع المال لشراء محتويات المحل , وخلال ثلاثة أيّام تمّ جمع مبلغ من المال أكثر مما كان سابقاً بمرتين وعاد المحل بحلة جديدة , بل أحسن مما كان قبل أن تلتهمه النار . لقد رأيت الدمع يملأ العيون حيث الناس منشغلون , وهو يردّدون عبارات راقية : الصبر يا حسين , حسبنا الله ونعم الوكيل . نحن أهلك وإخوتك , لن ندعك وحدك . ألمك ألمنا ومصابك مصابنا . بهذا الشعور الإيماني الرّاقي توارت المشكلة وطويت في سجلات النسيان بعد حين . 2- كنّا طلاباً في المرحلة الثانوية , وقد قررت مديرية التربية أن ترسلنا إلى محافظة السويداء لأداء معسكر الفتوة , السيارة تطوي بنا المسافات , وصلنا إلى ظهر الجبل هناك عصراً وهناك استقبلنا أخوتنا الطلاب أبنا المحافظة استقبالاً راقيّاً وأحاطونا بالرعاية ومثلهم الضبّاط والمدربون , وبدأت مرحلة العمل من تدريب على السلاح الخفيف والقيام بحملات إصلاح بعض الطرق ونحو ذلك , ولكن بينما نح في غمرة العمل ورد خبر استشهاد أحد رفقائنا في معسكر آخر , الأخ كما أبو سيف رحمه الله . انطلق المعسكر كلّه عن بكرة أبيه إلى بلدة القريّا , حضرنا التشييع وعزينا ذوي الشهيد وشاركناهم مصابهم وتألمنا لألمهم أشد الألم . 3- ما تشهد سورية اليوم من ثورة عمّت أرجاءها وتمخضت عنها آلام ونكبات وموت وضيق الشعور الإيماني تجده واضحاً من خلال تعاضد الشعب بضرب أروع مظاهر التعاون في كل مجال . وفي كل ألم جرّاء تواتر قوافل الشهداء . بهذه الشواهد أختم الكلام في هذا الحديث . والمأمول أن تمضي الأمة على هدي النبوة , فذلك فيه الخير في الدارين .