النظرية التأويلية في الترجمة ـ الأصل والتطورماريان لوديرير*ت.أ.د.محمد احمد طجو
العدد 141 شتاء 2010 السنة الخامسة والثلاثون



النظرية التأويلية في الترجمة ـ الأصل والتطور ماريان لوديرير (*) ـــ ت.أ.د.محمد احمد طجو (**)


ينبغي تهنئة منظمي هذا المؤتمر على اختيارهم هذا الموضوع: ما الترجمية؟ لقد آن الأوان لطرح هذا السؤال، لأنه يبدو أن الترجمية تشمل حالياً مختلف العلوم، مثل علم الاجتماع، والتاريخ، والفلسفة، والأنثروبولوجيا، والسياسة، مجازفة ربما بنسيان موضوعها الرئيس: الترجمة.
سوف أركز في ما يخصني على صلب الموضوع، أي على عملية الترجمة، وأصف النظرية العامة للترجمة التي وضعناها في المدرسة العليا للترجمة الشفهية والترجمة التحريرية ESITخلال العقود الثلاثة الأخيرة تحت مسمى النظرية التأويلية للترجمة.
1ـ في البدء، نظرية التأويل (الترجمة الشفهية):
لا يمكن الكلام على النظرية التأويلية في الترجمة من دون الكلام على دانيكا سيلسيكوفتش Danica Seleskovitch التي وضعتها. كانت سيلسيكوفتش، التي عاشت في شبابها في دول عدة على التوالي، تعرف اللغات الفرنسية والألمانية والصربية والإنجليزية، وتتكلمها، من دون أن تتعلمها فعلياً في المدرسة. وبما أنها كانت تنتقل بسهولة من لغة إلى أخرى، فإنها كانت تقصد مباشرة المعنى الذي تنقله الإشارات اللغوية التي كانت تعدّ أنها لا تمثل سوى وسيلة، يمكن من خلالها إدراك هذا المعنى. تمثل معرفة لغات عدة معرفة عميقة، المبدأ الأول في النظرية التي وضعتها سيليسكوفتش: ليست اللغات موضوع الترجمة ، بشرط أن يتقنها المترجم.
عزز هذا اليقين ممارسة سيلسيكوفتش الترجمة التتبعية ثم الترجمة الفورية. كان اهتمامها بالمدلولات اللغوية ينصب أولا على ما هو ضروري لظهور ما يعنيه المتحدث، وكانت بعد ذلك تعيد صياغة هذا المعنى بطريقة خاصة بلغة الوصول، متخلية بطريقة شبه كاملة عن العلامات الأصلية؛ أي إنها كانت تنقل المعنى وليس اللغة.
قاد تعليم الترجمة الشفهية الذي كرست سيليسكوفتش نفسها له منذ عام 1957 إلى التفكير في شرح أسباب المبادئ التعليمية التي كانت تقدمها لدارسيها. نشرت سيليسكوفتش أول مؤلفاتها في عام 1968، وهو بعنوان المترجم الشفهي في المؤتمرات الدولية. تضمن الكتاب في ذلك الحين المبادئ التي عرضتها في العقود الثلاثة التالية، والتي تمثل جملة من الملاحظات التي استنتجتها من خلال تجربتها الشخصية ومن التعليقات عليها. وأما كتابها الثاني المستمد بالمقابل من أطروحتها للحصول على دكتوراه الدولة التي كانت بعنوان ملكة اللغة، اللغات والذاكرة ـ دراسة تدوين الملاحظات في الترجمة التتبعية (1957)، فلا يقوم فقط على الحدس والملاحظة، ويمثل أول تجريب موضوعي على الترجمة التتبعية. ويمكن اعتبار هذه الدراسة المخصصة للترجمة الشفهية متقدمة على البحوث المنجزة اليوم، والهادفة إلى توضيح مفصل لما يدور في ذهن المترجم في الترجمة التحريرية، وذلك بمساعدة بروتوكولات التفكير بصوت مرتفع Think aloud Protocols (TAP)، والبرمجيات التي تساعد على تسجيل وقفات المترجم، وتصويباته، وتردده.
2ـ المبادئ الأولى
لم يتم إطلاق اسم على النظرية إلا في نهاية السبعينيات تقريباً، وقد أبرزت بحوث سيليسكوفتش المبادئ الأولى التي كونت الأساس لما أصبح يعرف فيما بعد بالنظرية التأويلية في الترجمة («نظرية المعنى» بالنسبة إلى طلابها).
2 ـ 1 ـ تقابلات وتعادلات
2 ـ 1 ـ 1 ـ وجودهما المشترك في كل ترجمة
لاحظت سيليسكوفتش في البداية (Seleskovitch 1975) وجود استراتيجيتين للمترجم في الترجمة الشفهية (وهو وجود تمت البرهنة عليه فيما بعد بالنسبة إلى الترجمة التحريرية): الترجمة بالتقابل بين اللغات بالنسبة إلى بعض العناصر اللغوية التي لا يؤثر فيها السياق، مثل أسماء العلم، والأرقام، والمصطلحات التقنية من جهة، والترجمة باللجوء إلى التعادل بين المدلولات اللغوية لأجزاء من الخطاب أو من النصوص التي تقع فيها المدلولات اللغوية تحت تأثير السياق، وتفقد معناها المتعدد، والتي توضح ما يعنيه المتكلم بفعل معرفة المترجم غير اللغوية.
إن الملاحظة الأولى هذه، القائمة على الممارسة أولاً، ثم على التجربة، تساعد على تقدم مهم سواء في نظرية الترجمة أم في أصول تدريسها. وقد تمكنت بنفسي، كما تمكن طلابي المتعاقبين في مرحلة الدكتوراه، من التثبت من صحة الظاهرة في ترجمة العديد من النصوص مختلفة الأنماط. يمكن عدّ الوجود المشترك للاستراتيجيتين في كل الترجمات، وباختلاف أنواعها، أحد القوانين الكونية للسلوك الترجمي الذي يبحث فيه جدعون توري (Gideon Toury 1995).
أقدم في ما يلي مثالين قصيرين على تعاقب التقابلات والتعادلات ، مقتطفين من كتابي الصادر في عام 1994 عن دار هاشيتHachette ، وهو بعنوان الترجمة اليوم ـ النموذج التأويلي. أعتمد في ذلك على فصل من رواية Cannery Row للكاتب شتاينبك Steinbeck ، الصادرة في عام 1945، والمترجمة إلى الفرنسية في عام 1948. يقدم المثال الأول نزهة صباحية لجنديين وفتاتين أمضوا الليل معاً في الرقص والشراب. يصف الكاتب هيئتهم بالقول:
The ties were pulled down a little so the shirt collars could be unbuttoned.
Ils avaient défait leur cravate afin de pouvoir ouvrir leur col.
ـ كانوا قد فكوا ربطة عنقهم لكي يتمكنوا من فتح ياقة قميصهم.
يصعب إدراك كيف كان يمكن وصف هذا المشهد، أي هذا الموقف الملموس، من دون ظهور ما يقابل الكلمتين ties و collars في الفرنسية. وبالمقابل، قامت المترجمة مادلين بازMadeleine Paz بإعادة صياغة الباقي بتصرف. ثمة اعتقاد بأن الشكل الذي اتخذته الترجمة الفرنسية ناجم عن أن صيغة المبني للمجهول، الدارجة في الإنجليزية، ليست مألوفة في الفرنسية، وأن المترجمة طبقت استراتيجيه مقررة سلفاً في الترجمة فحولت الجملة إلى المبني للمعلوم. لكن ذلك يعني استدلالاً قائماً على المقارنة بين لغتين لا على الترجمية؛ إذ إن استقصاء سريعاً لآراء بضعة مترجمين محترفين مشهود لهم يحمل على الاعتقاد أنهم لا يعملون بهذه الطريقة. إنهم يقولون إن تخيل المشهد ونقله بلغة فرنسية عفوية انطلاقاً من الصورة التي يوحي بها النص، أكثر سرعة وتلقائية بالنسبة إليهم من تطبيق قاعدة التحويل transfert. فقد كان هناك، بالنسبة إلى النظرية التأويلية التي تسعى إلى تحقيق تطابق في المعنى، إعادة تعبير خاصة بلغة الهدف، وإبداع استدلالي، وهو ما أطلقت عليه اسم التعادل النصي، مع تضمين دقيق لتقابلين.
2 ـ 1 ـ 2 ـ ترتكز التعادلات على السياق
هناك مثال قصير آخر يجعلني أتقدم خطوة في عرض النظرية التأويلية. يلي وصف المظهر البدني لأبطال الرواية وصف حركتهم:
They walked holding hands
Soldats et filles se tenaient par la main.
ـ كان الجنود والفتيات يتماسكون باليدين.
يلاحظ هنا تأثير السياق في الترجمة. وقد تم توضيح الضمير «They» في الفرنسية ?كلمتي «soldats et filles» اللتين تمت معرفتهما في فقرة سابقة. وتم، بالمقابل، إهمال الفعل «walked». لماذا؟ تعلم المترجمة منذ بداية الرواية أن الشبان يتجولون، ويعلم ذلك أيضاً قراء الأصل وقراء الترجمة. ويُلاحظ عند مقارنة النصين أن كلاً منهما ينقل «تضميناً» مختلفاً: يحيل الضمير «they» إلى «soldats et filles»، في حين أن الفعل «walked» المهمل في الترجمة مضمن مع ذلك بفضل السياق. إن قراء الترجمة والأصل يتخيلون المشهد نفسه. إن الصريح اللغوي وغير الكلامي لمعارف القراء يتحدان في الحالتين لتكوين المعنى نفسه. ويلاحظ هنا أيضاً، بالنسبة إلى معنى متطابق، وجود تعادل بين أجزاء نصية. وسوف أقدم أمثلة أخرى لاحقاً.
2 ـ 2 ـ كيف نفهم؟
يعرف المتمرسون في الترجمة الشفهية، نتيجة ترجمتهم العديد من الخطباء، أن هؤلاء يكيفون قولهم الصريح مع معارف الذين يفترضون مخاطبتهم. وهذا ما يقوم به الكتّاب، وهذا ما فعله شتاينبك هنا. إن العلامات اللغوية والصريحة لا يمكن أبداً فهمها تلقائياً، وتتطلب من المستمعين أو من القراء معلومات مناسبة لإكمالها ولاستنباط المعنى منها (يمكن القول في هذا الصدد إن المترجمين الشفهيين اكتشفوا، قبل غريس Grice وإيكو Eco، ضرورة تعاون المستمع لفهم الخطاب والقارئ لفهم النص).
سوف أوضح هذه الظاهرة، التي لا ينتبه إليها أحد على وجه العموم في التواصل أحادي اللغة، بمثال من مقال في مجلة يعالج نظام الفرملة الآلي ABS (automatic braking system).
Whether they admit it or not, most drivers react to a sudden emergency by slamming on the brakes in a blind panic, hoping to stop before crashing. Unfortunately, in many cases the result is that the brakes lock – especially on wet roads ـ causing the car to skid right into whatever is in its way. Skidding tires will not steer.
أي: «سواء اعترف السائقون بذلك أم لا، فإن معظمهم يستجيب لحالة مفاجئة بالضغط بقوة على المكابح بذعر مطلق، آملا التوقف قبل الاصطدام. ولسوء الحظ، فإن المكابح في معظم الحالات تنقفل/ لا تستجيب، لاسيما على الطرقات المبللة، ما يؤدي لانزلاق السيارة مباشرة باتجاه أي شيء في طريقها. إن السيارة ذات الإطارات المنقفلة لم تعد تستجيب للمقود».
إن عبارة Skidding tires will not steer مفهومة تماماً في اللغة الإنجليزية. وإن المترجم، مثل كل قارئ ناطق باللغة الإنجليزية، يفهم معناها بفضل مكملات إدراكية مناسبة يمتلكها ويضيفها إلى الدلالات اللغوية. وإنه يعرف أن الإطارات تشكل جزءاً من العجلات، وإن السيارات فيها عجلات، وأن السائق يستطيع توجيه العجلات المتحركة بواسطة المقود.
2 ـ 2 ـ 1 ـ مبدأ المقارنة/ التكييف لدى بياجيه
وجدت دانيكا سيليسكوفتش Danica Seleskovitch ـ في بحثها عن تأكيد الملاحظات المتجددة باستمرار، والمتعلقة بالفهم، والتي كانت تسجلها ـ عوناً قوياً في أعمال جان بياجيه (من بينها 1992 Piaget,) ومفهوم المقارنة/ التكييف الذي جذبها (حتى نفهم، نقارن المعلومة الجديدة بالمعارف السابقة، ونكيف القديم مع المواقف الجديدة). يشرح هذا المفهوم في الواقع عملية الفهم لدى المترجم الشفهي والمترجم التحريري، التي كنت على وشك أن أعرضها لتوضيح أن النص يبقى حبراً على ورق ما لم يفهمه (أي يؤوله) قارئ بمساعدة السياق والجزء المناسب من معارفه الموسوعية.
2 ـ 2 ـ 2 ـ إعادة التعبير في الترجمة، نتاج الفهم
لا يمكن توضيح الفهم إلا من خلال المنتج الذي يولده لدى المترجم، أي إعادة التعبير. ولذلك فإنني أقدم هنا ترجمة الجملة Skidding tires will not steer (1). إن أكثر مترجم التزاما بالأمانة، يدرك إدراكاً جيداً، أنه لا يكفي ترقنة دلالة كلمات هذه الجملة الواحدة تلو الأخرى. وإن إدراكه الاختلاف بين الفرنسية والإنجليزية يمنعه من كتابةdérapent ne guident pas ces pneus qui (إن الإطارات المنزلقة هذه لا تقود السيارة)، ويقوده إلى التعبير عن نتيجة فهمه بدلا من الصريح الأصل ، وإلى قول: des roues bloqués ne répondent plus (الإطارات المنقفلة لم تعد تستجيب)، أو على نحو أكثر عفوية : une voiture aux roues bloqués ne répond plus au volant (سيارة منقفلة الإطارات لم تعد تستجيب للمقود)، أو على نحو أكثر بساطة أيضاً: une voiture aux roues bloqués ne répond plus (سيارة ذات إطارات منقفلة لم تعد تستجيب). يتخلى المترجم إذن عن الصياغة الأصل، وينقل معناها مثلما فهمه. تطلق النظرية التأويلية على هذه الظاهرة اسم تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية déverbalisation ، وعملية توضيحها في الشفهي أكثر سهولة بالطبع من توضيحها في الكتابي، ولكنها موجودة أيضا في الترجمة التحريرية.
2 ـ 3 ـ تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية
إن الترجمة الشفهية، التي لم تكن بالنسبة إلى دانيكا سيليسكوفتش سوى وسيلة للوصول إلى ما كان يهمها بالدرجة الأولى ـ أي توضيح العلاقات بين الفكر واللغة ـ لم تكن أيضاً سوى أداة مفضلة لملاحظة التواصل البشري: تساعد الترجمة الفورية التي تمت دراستها بشكل متزامن، على ملاحظة عمل فكر المترجم لحظة بلحظة من خلال تعبيره، ووقفات تأمله أو تردده، وتقدم الترجمة التتبعية، من جملة أشياء أخرى، البرهان على تحرير فكرة تم فهمها من ألفاظها الأصلية.
يرتكز المعنى على العلامات اللغوية، ولكنه بمجرد تكوينه، ينفصل عنها، ويبقى في الذاكرة زمنا طويلاً إلى حد ما بحالة غير لفظية. وإن أفضل ما يمكنني فعله بخصوص تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية الذي يشكل عنصراً أساسياً في النظرية التأويلية، هو إعطاء دانيكا سيليسكوفتش الكلام (5 ـ 364:2002 Danica Seleskovitch) في النتائج التي استخلصتها من مؤتمر هوية، وغيرية، وتعادل ـ الترجمة بوصفها علاقة، الذي انعقد في عام 2000:
«إن تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية، وهي تسمية جديدة ولكن إدراكها على الأقل قديم قدم الترجمة الشفهية، يصطدم غالباً أيضاً بتشكيك الذين لا يؤمنون بفكر من دون لغة. بيد أنه من المحتمل أن ما من مترجم في الترجمة التتبعية لم يكرر باللغة نفسها الخطاب الذي كان يفترض منه ترجمته باللغة نفسها وليس بالكلمات نفسها. وقد تمكنا من ملاحظة وجود مرحلة وسطى بين زمن الفهم وزمن إعادة التعبير عنه، تختفي فيها الكلمات باستثناء بعض الحالات، وتتحرر من شكلها اللفظي بالمقابل المعاني التي تستمر. إننا نفهم فهماً أفضل أنه باستطاعتنا الترجمة بتسمية الأشياء بدلاً من استبدال المدلولات بمدلولات لغة أخرى حالما يتحرر المعنى من خلال هذه الحالة التي تتكرر مرات عدة [...]».
ولا مجال هنا للدخول في جدال تحرير أو عدم تحرير من الألفاظ الأصلية. ويمكنني القول بكل بساطة إن بعض علماء اللسانيات مثل بوتييه (B. Pottier 1981:24 ) أو اللسانيات النفسية مثل سلاما ـ كازاكو (T. Slama ـ Cazacu 1961:210)، وعلى وجه الخصوص علماء اللسانيات العصبية مثل باربيزيه أو لابلان (J. Barbizet 1968: 56 ou D. Laplane 1997) يتفقون معي على رؤية أن المعلومات في الدماغ ليست مخزنة في شكل لغوي، إضافة إلى أن المترجمين المحترفين أكدوا مباشرة أنه لا يمكن أن تكون هناك ترجمة مُرضية من دون تحرير من الألفاظ الأصلية على نطاق واسع.
3ـ اتساع مجال النظرية وشمولها الترجمة التحريرية
تم في عام 1974 تكليف دانيكا سيليسكوفتش التي كانت بحوثها حتى ذلك الحين تقوم بشكل رئيس على دراسة الترجمة الشفهية، والتي عرفت بنشاطها ورؤيتها المستقبلية، بافتتاح أحد أوائل برامج الدكتوراه في الترجمية في العالم، الذي سُمي بداية «علم الترجمة الشفهية والترجمة التحريرية»، والذي تحول بشكل سريع جداً إلى برنامج «الترجمية». اجتذب برنامج الدكتوراه هذا إلى المدرسة العليا للترجمة الشفهية والترجمة التحريرية دارسين من بلدان كانت الترجمة فيها تعدّ مهمة بما يكفي لإنشاء كراسي بحث للترجمية. كان ذلك (وما يزال) بعيد المنال في فرنسا!
وقد برهنت منذ عام 1978 أطروحات استندت إلى المبادئ النظرية التي تدرس في المدرسة العليا للترجمة الشفهية والترجمة التحريرية على إمكانية تطبيق المفهوم على الترجمة التحريرية، وأصبحت نظرية الترجمة الشفهية نظرية للترجمة التحريرية.
كان الكندي جان دوليل J. Delisle من أوائل الذين عبروا عن ميلهم إلى النظرية التأويلية للترجمة من خلال رفضه تطبيق كتاب فيني وداربلنت Vinay et Darbelnet الأسلوبية المقارنة للفرنسية والإنجليزية(1957) في تعليم الترجمة. والكتاب عمل مرموق في حد ذاته، ولكنه لم يكن أبداً منهجاً في الترجمة، كما يوحي بذلك عنوانه الفرعي. وإنه لمن المؤكد أن «الطرق» السبع وسائل لمقارنة النص المترجم بالنص الأصل، وأنها تساعد بعد الترجمة على وصف استراتيجية المترجم. ويدلل المؤلفان على أن الإنجليزية والفرنسية لغتان مختلفتان، ويصفان أموراً دقيقة جداً تطبق قبل الترجمة وبعدها، ولكنها لا تفسر الترجمة. ويتمثل الأمر الأكثر خطورة في أنهما يعطيان انطباعاً بوجود قواعد للانتقال بين اللغات، وبعبارة أخرى في أن الترجمة عمل على اللغات وليس على النصوص. ويتجاهل المؤلفان في مصنفهما المترجم وإبداعه. وإن هذا المصنف ليس تفسيراً لعملية الترجمة رغم أنه ممتاز في مجاله.
عارض دوليل إذن «بفطرة سليمة ولكن أيضاً بشجاعة النظريات اللغوية والمقارنة في الترجمة» (Seleskovitch 1980: 10)، ودلل في أطروحته على أن فهم المترجم تأويل، وأن إعادة صياغته بحث عن التعادلات السياقية، وأنه «حالما يتم إدراك المعنى، يتم نقله وفقاً للأفكار وليس وفقاً للكلمات» (Delisle 1980: 82). وأضاف دوليل إلى المراحل التي توصلت إليها النظرية بخصوص الترجمة الشفهية مرحلة إضافية خاصة بالترجمة التحريرية، وهي «التحليل التعليلي» الذي «يهدف إلى التحقق من دقة الحل (المؤقت) الذي تم اختياره» (Delisle ibid ).
تبع ذلك منذ عام 1978 عدد من الأطروحا ت الأخرى عن الترجمة التي أكدت صلاحية النظرية التأويلية في الترجمة لكل أنواع النصوص: النصوص البراغماتية، والتقنية (أذكر منها أطروحات دوريو Durieux في عام 1984، و كورمييه وأورتادو Cormier et Hurtado في عام 1986، وزاهو إيبنغ Zaho Heping في عام 1989، وباستن Bastin في عام 1990)، والقانونية (كوتشيفتش Koutsivitis في عام 1988، وبلاج Pelage في عام 1995، وصن كسيوفن Sun Xuefen في عام 2000) والقديمة (جميسون Jamieson في عام 1991)، والسمعية البصرية (ماشادو Machado في عام 1996، وسوه Soh في عام 1997)، إلخ. وقد استنتج البعض من هذه الأعمال أنه إذا كانت النظرية التأويلية قابلة للتطبيق فعلياً على النصوص الإخبارية «المفهومية» كلياً ـ التي لا تخاطب العاطفة ولا الحس الجمالي ـ فإن الأدب الذي يسود فيه الشكل لا تنطبق عليه هذه النظرية.
4ـ اتساع مجال النظرية وشمولها الترجمة الأدبية
بيد أن فورناتو إسرائيل (F. Israël 1990:30) الذي طرح السؤال التالي:
«إن كان بالإمكان تطبيق النتائج الحاسمة لنظرية المعنى في المجال المستكشف [للنصوص البراغماتية والتقنية] على ترجمة الأدب أو إن كان هذا الأخير يتعلق، بسبب خصوصيته، بإشكالية أخرى».
يجيب بالقول (F. Israël 1990:40)
«إن المبادرة اللغوية التي امتدحتها نظرية المعنى ضرورية بلا شك في ترجمة الأدب أكثر من ضرورتها في ترجمة أنماط الخطاب الأخرى. فالعملية الترجمية نفسها، المطبقة على النص الأدبي والهادفة إلى إيجاد تعادل وظيفي مع الأصل، ينبغي أن تكون فعلا شعرياً. وينبغي قبل كل شيء، حتى يتم هذا التحول، تحديد ما هو خاص بالكاتب من الناحية اللغوية، أي لغته الخاصة به، وبعبارة أخرى الفائدة التي جناها من اللغة العامة .fond commun ويتعلق الأمر ثانياً حالما تتم الإحاطة بهذه الخصوصيات idiosyncrasies، بتحديد دورها في اقتصاد المشروع. وتقوم المرحلة الثالثة أخيراً على اكتشاف كل المصادر الخاصة بإيجاد علاقة معنى ـ شكل في لغة الهدف وثقافتها، قابلة لإحداث التأثير نفسه».
وبعبارة أخرى، إن المترجم الذي يهدف إلى تحقيق وظيفة النص في ترجمته أيضاً، لا يبحث عن نقل اللغة الأصل، وإنما التأثير الذي أراد الكاتب إنتاجه باستخدام هذه اللغة. وقد مهد فورناتو الدرب لإعداد أطروحات عدة عن الترجمة التحريرية، منها أطروحات هنري (Henri1993)، ويان سووي (Yan Suwei)، وكالومبو(Kalumbu 1997)، وغيورغييفا(Gueorguieva 2000)، ورو ـ فوكار (Roux ـ Faucard 2001).
بقي أن أعرّف المقصود من المعنى في النظرية التأويلية بعد أن برهنت على أن اللغات لا تقوم في الترجمة سوى بدور نقل المعنى المفهومي notionnel والعاطفي.
5ـ المعنى
سبق أن رأينا، وهو أمر أكده العديد من الكتّاب اللسانيين من أمثال كاترين كيربرات ـ أوركيوني (1990:28 Kerbrat ـ Orecchioni) وعلماء النفس من أمثال جينست ولوني (Gineste et Le Ny 2002) أن المعنى إعادة تعبير المستمع أو القارئ عما يعنيه المتكلم، انطلاقاً من المكملات الإدراكية التي يضيفانها على العلامات اللغوية التي يصدرها (المتكلم).
اهتمت النظرية التأويلية أولاً بخطابات ونصوص براغماتية وتقنية، إذ إن المعنى المستخلص من هذه النصوص ذو طبيعة مفهومية أساساً ( على الرغم من أن أكثر النصوص تقنية يمكن أن يتضمن أحياناً بعض الجوانب العاطفية) ومن السهل بلا شك إثبات ذلك. وبالمقابل، يرى بعض الترجميين الذين يهتمون حصراً بالترجمة الأدبية، أن النصوص الأكثر استعانة بالعاطفة تثير مشكلات القراءة الجمعية pluriel، ويتساءلون بالنتيجة إن كان المعنى قابلاً للإدراك. ألا يعني ذلك تشديداً أكثر من اللازم قليلاً على مشكلات التواصل؟ إن كنا في الواقع نتأمل ما يجري في الحياة اليومية ـ إنني لا أفكر فقط بالتبادلات المادية وإنما بالتبادلات الفكرية بجميع أصنافها ـ فلا يسعنا إلا أن نستنتج أن التواصل يتم بشكل صحيح تقريباً، وليس على المستوى المرجعي فقط. فعندما يكون هناك خطأ بطريق الصدفة ـ وهذا يحصل ـ فإنه يكون في أغلب الأحيان نتيجة عدم تكيف المتكلم مع الذين يخاطبهم، أو عدم تكيف هؤلاء مع نقص في المعارف الملائمة.
سوف أستشهد ثانية بدانيكا سيليسكوفتش (Seleskovitch 1981: 13) بخصوص التعبير عن المعنى بدقة:
«هل المعنى ذاتي وغير واضح كما يسود الاعتقاد غالباً؟ وهل يقبل كل تأويل، ويفتح الباب لكل خيانة؟ لقد أعيد بذلك فتح النقاش حول الحرفية والمعنى بشأن الترجمة، رغم أن الأمر يتعلق بمعضلة مزعومة. إن معنى ملفوظ يُعرّف بالطرق التي تُعرّف بها دوال اللغة. يتم العمل في الحالتين بطريقة الملاحظة. وهل تكتسب الدوال موضوعيتها من حقيقة أنها تحصل على إجماع كل أفراد مجتمع ما؟ المعنى إذن موضوعي أيضاً، لأن الذين يتوجه إليهم الكلام في موقف ما، يفهمون أيضاً معناه بالسهولة والدقة التي يفهمون فيها اللغة التي تم إرساله بها».
هذا التأكيد الذي ينطبق على الاتصال الشفهي صحيح أيضاً في معظم النصوص المراد ترجمتها(2). ويبدو لي من الصعب قبول حجج الذين يستندون حصراً إلى ترجمة الآثار الأدبية، ويقدرون أنه لا يمكن بشكل عام بلوغ المعنى. زد على ذلك أن قبول رأيهم إلى حد ما يعني نفي كل إمكانية للترجمة، وليس ذلك هذه المرة بسبب عدم التناظر بين اللغات non isomorphisme، وإنما بسبب استحالة إدراك القارئ المعنى المراد بدقة.
يرى بعض الترجميين، الأكاديميين جداً بالمعنى الدقيق، أنه لا يمكن التأكد مما يعنيه مؤلف ما، وأنه ينبغي علينا محاولة نقل «معنى النص» وليس ما يعنيه المؤلف. ويبدو لي والحال هذه أنه ينبغي على المترجم أن يحاول إدراك ما يعنيه المؤلف، ونقله بالقدر الذي يمكن فيه لكل قارئ أن يقرأ النص بطريقة مختلفة قليلاً، لأن ما يعنيه المؤلف هو الذي يساعد فيما بعد على قراءة النص قراءة فردية. زد على ذلك أنه لا ينبغي الخلط بين المعنى والقصد، فما يعنيه المؤلف وقصده أمران يميز بينهما المترجم بسهولة.
6ـ لماذا لا يمكن ترجمة لغة النصوص
لقد حاولت خلال سنوات عديدة إيجاد تفسير لا يمكن الجدال فيه لتأكيدي الذي لم يلق قبولاً في الغالب، والذي يقول: إنه ينبغي إعادة التعبير عن المعنى بصرف النظر عن شكله اللفظي في لغة الانطلاق. ومن المؤكد أنني كنت أعرف المبدأ السوسوري القائل باستقلال الأنظمة اللسانية، وبعدم تقابل المفردات والقواعد. وكنت أعرف أيضاً بفضل هامبولت Humbolt أن اللسانيات قد أتت بفكرة أن كل لغة في الواقع تبرز بوضوح جوانب مختلفة، ولكن هذه الملاحظات تبقى مجزأة بالنسبة إلى الترجمة، ولا تجيب بطريقة مرضية كلياً عن تساؤلات طلابنا.
6 ـ 1 ـ الصريح والضمنـي
سبق أن رأينا أن النظرية التأويلية تقول، بناء على قاعدة من الملاحظات التي لا تحصى وعلى التجريب في مجال الترجمة التتبعية (سيلسيكوفتش 1975) والترجمة الفورية الذي أجريته بنفسي (لوديرير1981)، إن نسبة كبيرة من الترجمات كانت دائماً تتكون من تقابلات بين كلمات وتعادلات بين أجزاء من النص. إن دانيكا سيلسكوفتش وأنا شخصياً نعتقد أننا توصلنا إلى إيجاد سبب هذا الانتظام. وإننا باطلاعنا باستمرار على لغات مختلفة، لاحظنا أن السند اللغوي للمعنى ليس سوى جزء من كل، وهو ما أتى به اللسانيون على المستوى أحادي اللغة (انظر على سبيل المثال ديكرو Ducrot 1972). لقد رأى اللسانيون أن بعض الأشكال اللغوية للغة والخطاب، تنقل ما هو ضمني، وميزوا بطريقة صحيحة بين الضمني في اللغة، أي المفترضات présupposés les ، وبين ما هو ضمني في الخطاب، أي المضمرات les sous ـ entendus. يرى الترجميون أن المفترضات (لقد توقف بيير عن التدخين، تشير ضمنياً إلى أنه كان يدخن سابقاً) تشكل جزءاً من ارتباط مدلولات اللغة بمعرفة العالم، وأن المضمرات ( Pierre a cessé de fumer لقد توقف بيير عن التدخين يمكن أن تعني من دون قول ذلك صراحة Tu ferais bien d'en faire autant يحسن بك أن تفعل الشيء نفسه) هي المقاصد التي تزود الدافع الضروري لإنتاج القول. إن المضمرات يمكن إدراكها، أو تقديرها على الأقل، ولكنها لا تشكل جزءا من المعنى الذي ينبغي على المترجم نقله (إن أي مترجم لا يترجم Pierre a cessé de fumer لقد توقف بيير عن التدخين ?: Comme pierre, tu devrais cesser de fumer من المفروض أن تتوقف عن التدخين مثل بيير).
ومع ذلك، تعد ظاهرة الضمني أكثر عمومية من الظاهرة التي لاحظها اللسانيون. والحقيقة أننا عندما نقارن لغتين، والطريقة التي يعبر فيها متكلمو اللغتين عن الأفكار نفسها، نلاحظ أن الضمني الذي يحيل إلى المعنى نفسه مختلف في معظم الأحيان في اللغتين، وفضلاً عن ذلك، في كل الخطابات الملفوظة في هاتين اللغتين.
6 ـ 2 ـ مبدأ المجاز المرسل
لقد أطلقت على هذه الظاهرة اسم «المجاز المرسل» الذي استعرته من البلاغة.
6 ـ 2 ـ 1 ـ مجاز اللغة المرسل
لا تظهر ظاهرة المجاز المرسل للملاحظ إلا عند مقارنة اللغات. إذا وضعنا الكلمة الفرنسية résineux (راتنجي) والكلمة الإنجليزية softwood والكلمة الألمانية Nadelholz إلى جانب بعضها البعض، فإننا نحصل على وصف كامل للإحالة référent : هذه الشجرة bois جد طرية soft، وتنضح نسغاً لزجاً (la résine)، وليس لها أوراق وإنما إبر(Nadel). إن كل لغة من اللغات الثلاث لا توضح سوى أحد جوانب الإحالة التي تهدف إليها مع ذلك كلها.
إن هذه الظاهرة التي يمكن تقديم أمثلة لا تحصى عليها لا تقتصر على الكلمات. وتشمل العبارات الجاهزة التي لا تعبر هي أيضاً سوى عن جزء من الفكرة التي تحيل إليها. لقد قارن فيني وداربلنيه (Vinay et Darbelnet 1957) عدداً من العبارات الجامدة التي لا تتبدل في الفرنسية والإنجليزية، وأوضحا كيف أن صياغتها تختلف رغم تطابق المعنى.
ومع ذلك، إذا كانت ظاهرة المجاز المرسل تقتصر بكل بساطة على اللغة، فإن تأثيرها محدود بما يكفي على الترجمة، لأن كل القواميس الجيدة تقدم تقابلات متفق عليها في الإنجليزية والألمانية لكلمة résineux على سبيل المثال.
6 ـ 2 ـ 2 ـ مجاز الخطاب المرسل
توجد الظاهرة بصورة أكثر أهمية في الخطاب. وتوجد لدى المترجمين الشفهيين فرص لا تحصى في مداخلات المتكلمين الذين يتناوبون على الكلام في الموضوع نفسه، لملاحظة، قبل كل شيء، أن كلا منهم يرتكز على المعرفة التي يشترك بها مع محاوريه، ولا يقول سوى الجزء للتعبير عن الكل، ويعني ذلك أنه يستخدم المجاز المرسل في التعبير، ولكن أيضاً أن المجازات المرسلة التي تحيل للأفكار نفسها متباينة في مختلف اللغات.
وبالمثل، إذا قارنا ترجمة بأصلها، فإننا نلاحظ أن المجاز المرسل حاضر حضوراً فاعلاً، وأنه متباين لدى الكاتب والمترجم. فالمترجم يكيف خطابه لقرائه، ويوضحه وفقاً للمعارف التي يفترضها لديهم. ولكنه يتميز أيضاً بطريقة في التعبير عن أفكاره تفرضها عليه من جهة لغته، وترتبط من جهة أخرى بقدراته الخاصة وخياراته الأسلوبية. ويكتشف المترجم الذي يفهم ما يعنيه الكاتب، أنه ينبغي عليه ، لينقل المعنى والأثر الذي يحدثه الشكل الأصلي، أن يجد شكلاً مختلفاً ومقبولاً لدى قراء الأصل، أي تعادلاً نصياً وليس تقابلاً بين الكلمات، بالقدر الذي تختلف فيه المفردات والتراكيب في اللغتين، ولا يعبر كاتب فرنسي عن الفكرة نفسها بالشكل اللغوي الذي يعبر فيه كاتب إنجليزي عنها على سبيل المثال. إننا نتذكر بلا ريب الإعلان الذي أطلقه أمن الطرق منذ بضع سنوات، وشعاره الذي يقول: Un verre, «ça va, deux vers bonjours les dégâts» (قدح واحد أنت في أمان، وأما قدحان فأنت خسران). إن الضمني الذي تنقله عبارة «bonjours les dégâts» قوي جداً. وأما في اللغة الإنجليزية، فقد أخذ الإعلان شكلاً مختلفاً كل الاختلاف، ولكن الضمني قوي التلميح أيضاً: «Just see what happens!». إن المجازات المرسلة في اللغتين مختلفة، ولكن التأثير، وبالتالي المعنى، متطابق.
إن مساهمة النظرية التأويلية في الترجمة في مسار إعادة الصياغة في الترجمة مهمة إذن: يوضح المبدأ العام للمجاز المرسل الضرورة القصوى للابتعاد عن الصياغة الأصل (تحرير المعنى من ألفاظه الأصلية) لإيجاد تعادلات يلجأ إليها كل المترجمين، مهما كان ولاؤهم النظري، والضمني، والصريح ، وقد أمكن لنا التحقق من ذلك.
إن المجازات المرسلة المختلفة للإحالة إلى الكل نفسه في مختلف اللغات والتعادلات بين أجزاء النص التي تفرضها الظاهرة، هي الأساس في إعادة الصياغة في الترجمة. ينطبق ذلك على النصوص المفهومية، ولكن الترجمة الأدبية تخضع للقواعد نفسها. ويمكن لغير العارف بأصول الترجمة أن يعتقد أنه ينبغي على المترجم أن يبذل قصارى جهده للمحافظة على الشكل، بوصفه يساوي المضمون من حيث الأهمية، إن لم يكن أهم منه. وهو مخطئ في ذلك. لقد بينت النظرية التأويلية أنه إذا كانت الترجمة الواضحة للشكل لا تساعد على الوصول إلى جمهور القراء، فإنها لا تساعد أيضاً على المحافظة على الجانب الجمالي للنص. وبما أن وظيفة الشكل تكمن في إنتاج تأثير محدد على القارئ، فإن المترجم القدير يسعى في النص المترجم إلى إحداث التأثير الذي يحدثه شكل النص الأصل بدلاً من نسخ هذا الشكل، وينجح في ذلك بفضل الأدوات اللغوية الخاصة بلغته، التي تختلف بالتعريف عن أدوات النص الأصل.
7ـ دور اللغات في الترجمة
لنرى، ختاماً لهذا العرض، أهمية اللغات في النظرية التأويلية. إن ظاهرة المجاز المرسل تدعم تأكيدي أن اللغات ليست سوى ناقل لمعنى ينبغي دائما على المتلقي، والمستمع، والقارئ، والمترجم الشفهي أو التحريري بناؤه، انطلاقاً من بعض العلامات اللغوية. لقد تحقق الباحثون في النظرية التأويلية من صحة هذا التأكيد في أزواج مختلفة من اللغات مثل الألمانية، والعربية، والصينية، والكورية، والإسبانية، واليونانية، والتايلندية، وغيرها، وكذا في الترجمة من الفرنسية والإنجليزية وإليهما. وقد تأكدت أيضاً من صحتها في لغة الإشارات، ولغة الحركات، واللغة غير الصوتية (انظر سيرو غيوم Séro ـ Guillaume 1994). وفي هذا الصدد، تلقى النظرية التأويلية في الترجمة دعماً مطلقاً من مترجمي لغة الإشارات الفرنسيين ومن زملائهم الأمريكيين، الذين وجدوا فيها البراهين التي كانت تنقصهم للاعتراف بلغة الإشارات لغة كاملة العضوية، وبالترجمة الشفهية إلى لغة الإشارات ترجمة شفهية حقيقية.
نظرياً، لا يوجد أي سبب لمنح أية خصوصية لأزواج خاصة من اللغات. إن عملية الفهم هي نفسها لدى كل الكائنات البشرية، مهما كانت لغتهم، وما ينطبق على الفهم أحادي اللغة ينطبق على فهم اللغات الأجنبية. وأما بالنسبة إلى إعادة التعبير فإنها تتعلق فقط، نظراً لضرورة الفصل بين الاصطلاحات اللغوية، بلغة الوصول وليس بأزواج لغات الانطلاق/ الوصول. ومن المؤكد، إذا تم تجاوز الشرح النظري، أن كل مترجم يلجأ إلى طرائق وحيل وعادات اكتسبها من كثرة التجربة بالنسبة إلى زوجين أو أزواج من اللغات التي يعمل عليها. ولكن الأمر يتعلق بالممارسة التي لا تقلل من أهمية الشرح النظري.
8ـ مصطلح موحد
ينبغي أن تقوم نظرية ما على مصطلح دقيق قدر الإمكان. وقد أدركت سريعاً بما يكفي أن المصطلح اللساني الذي كنت أحتاج إليه لم يكن موحداً في اللسانيات نفسها. إن مصطلحي sens (معنى) و signification (دلالة) على سبيل المثال يستخدمان إما بلا تمييز بمعنى مطابق، وإما بمعان مختلفة لدى كتاب مختلفين. وعليه فقد شعرت في نهاية الثمانينيات بضرورة تحديد مصطلحي الخاص، لأنه كان ينبغي، من جملة أشياء أخرى، التمييز بوضوح بين مختلف مستويات الترجمة: الكلمات المعزولة، والكلمات في السياق وفي الخطاب. وإن استخدمت مصطلحي نص texte وخطاب discours بالمعنى نفسه بلا تمييز، فإنني قررت تخصيص مصطلح sens(معنى) للخطاب، واستخدام مصطلح signification (دلالة) للكلمات المعزولة ومصطلح signification actualisée (الدلالة الفعلية) للكلمات في السياق. وبخصوص مصطلح السياق contexte، بما أنه يجب على الترجميين، وكذا على المترجمين مقاومة الاصطلاحات اللغوية الإنجليزية anglicismes التي تجعل النص الفرنسي غامضاً، فإنني أطلق اسم السياق على الإطار اللفظي للكلمات، وأستخدم مصطلح موقف situation لوصف كل الظروف غير اللغوية التي تحيط بالخطاب. وقد استبعدت من قاموسي الكلمتين coder ـ décoder (يرمز ـ يفك الرمز) اللتين لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تنطبقا على الخطاب، مثل عبارتي لغة ـ مصدر langue ـ source ولغة هدف langue ـ cible، لأن الترجمة تتم بين نصوص وليس بين لغات. وأما مصطلح تعادل équivalence، فإنه ما يزال يستخدم في الترجمية بطريقة غير دقيقة (انظر كولر1979 Koller). وقد خصصت من جهتي، كما رأينا، مصطلح تعادل équivalence لأجزاء الخطاب، وإنني أستخدم مصطلح تقابل correspondence للكلمات والعبارات الجامدة وترجمتها. ومن المؤسف أن الترجميين لا يتفقون على مصطلح مشترك، يضفي مزيداً من الوضوح على الخطاب الترجمي.
9 ـ خاتمة
لم أقدم فيما مضى سوى نظرة إجمالية للنظرية التأويلية، التي تتسم بتفاصيل أكثر لم يتسن لي توضيحها في هذا العرض الموجز. وسوف أنهي كلامي بلفت النظر إلى حقيقة أن النظرية التأويلية ليست نظرية برج عاجي، وأنها انطلقت من الممارسة، وكسبت دعم المتمرسين بالترجمة. ولهذه النظرية فضلاً عن ذلك انعكاسات دقيقة ومفيدة على أصول تدريس الترجمة. وأخيراً، لا يتعلق الأمر بنظرية مغلقة، لأنها تتجاوز من جهة نظرية الترجمة، وتهدف إلى شرح آليات اللغة والتواصل، ولأنها من جهة أخرى تتضمن في إطارها العام العديد من الدراسات الخاصة التي تدعمها وتكملها.
(1) تكرم ف. إربيلو F. Herbulot بتقديم هذا المثال.
(2) باستثناء النصوص القديمة حيث تشكل لغة النص المعطى الوحيد المتوفر في إنشاء المعنى.


* مجلة الآداب العالمية