النظرية التأويلية للترجمة

نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي



النظرية التأويلية للترجمة
La théorie interprétative de la traduction
ترجمة الدكتور حسيب الياس حديد
جامعة الموصل- كلية الاداب
بقلم : ماريان ليدرر(*) Par Marianne Lederer

يوجز عنوان احد مؤلفاتنا المنشورة بالاشتراك مع دانيكا سيلسكوفيج الموسوم بـ "التأويل من اجل الترجمة" بقليل كلماته نظرية الترجمة المعتمدة في المدرسة العليا للمترجمين والتراجمة في جامعة باريس الثالثة والتي ستكون موضوع حديثنا في السطور التالية :
وبادئ ذي بدء فانه من الاهمية بمكان ان نعيد الى الاذهان ان مصطلح الترجمة لا يتضمن في ثناياه فقط الترجمة التي تهدف الى اقامة التبادل والمراسلات على صعيد
المفردات والقواعد والتعابير وانما يشتمل على ترجمة النصوص التي تتعدى التبادل بين العناصر اللغوية البحتة وايجاد توافق في عناصر المعنى . وبعبارة اخرى ، يغطي مصطلح الترجمة نشاطا لغويا كما هو مطلوب في تدريس اللغات وهي نفسها العملية التي يقوم بها الحاسوب مرتكزة على ايجاد معاني المفردات والجمل . فالترجمة اذن نشاط عقلي لا يقف عند حدود الجمل لغويا ويتطلب من المترجم ان يستحضر كل ما يعرفه عن المؤلف ودوافعه والموضوع الذي تمت معالجته والعصر الذي تم فيه التأليف وكذلك الظروف التأريخية المحيطة بالتأليف فضلا عن جمهور الكاتب الذي سيكون المؤلف في متناول يده .

ترجمة اللغات : La traduction des langues
تكمن معوقات الترجمة في مرحلة تعليم اللغات في الجوانب اللغوية بصورة اساسية . اذ تسعى تمارين الترجمة التي تعطى لطلبة اللغات الى استبعاد المعاني الخاطئة وكذلك المعاني غير المنطقية التي من شأنها ان توقعهم في اخطاء متعلقة باللغة الاجنبية اذ لم يرتقوا بعد الى مستوى يعيرون فيه مزيدا من الاهتمام بالسياق اللغوي ، فهي مرحلة لا تبدو جلية الا بعد اتقان لغة المصدر . ففي مثل هذه الحالة يمكن ان يؤدي استعمال مصطلح الترجمة الى تجاهل امر وهو ان المترجم الحقيقي لا يستطيع بعمله هذا ان يستغني عن المعلومات التي لا تتضمنها لغة النص وانما التي تعطي معناها له .
ومن جهة اخرى ، حالت الاهمية شبه المطلقة الممنوحة الى اللغات في تدريس الترجمة دون احراز تقدم نظري . اذ جابهت البحوث الخاصة بطرائق ترجمة العناصر المختلفة للغات اخفاقات في مجال الترجمة يصعب تصنيفها وقد يتعذر حلها في بعض الاحايين . ومن الجدير بالذكر تم استعراض هذه الامور في الدراسة التي قام بها ج مونان( ) بدراية ودقة حيث ذهب مستنتجا : "ان الترجمة ليست ممكنة دائما ، فهي ممكنة في نطاق وحدود معينين" .
وهذا صحيح عندما نعمل جاهدين للتوفيق بين اهتمامين يمكن التوفيق بينهما والاخذ بنظر الاعتبار بصورة مطلقة واساسية علم الدلالة في لغة الاصل متأملين وضمن الحدود الدنيا على الاقل ان تكون ثمرة الترجمة مطابقة لمتطلبات اللغة المترجم اليها .
ربما يبدو الامر متناقضا اذا ذكرنا ان الترجمة الالية المطبقة على لغتين تقدم برهانا على عدم القيام بعملية الترجمة من الناحية اللغوية البحتة . ومن المعلوم ان الترجمة الالية ترتكز بصورة فعلية على مبدأ ابدال مصطلح باخر بين اللغتين . واظهرت المحاولات الاولى وبجلاء تعددية المعنى للمفردات وغموض الجمل التي تم اخذها بالحسبان بصورة تدريجية والتي كان من المفروض اعطاؤها للالة لكي تقوم بعملية الترجمة الصحيحة نوعا ما وكذلك المعلومات التي يعدها المترجم من الامور اللاشعورية في عمله .

ترجمة النصوص : La traduction des textes
يعلم المترجمون الجيدون وبصورة طبيعية ان الترجمة لا يمكن ان تنحصر بجانب معين من اللغة واكتشفوا ببالغ الغبطة النظرية التأويلية عندما كانوا يعانون من احكام مسبقة تكتنف عملهم والتي من شأنها ان تجعل الترجمة تتمحور في تحليل اللغتين التي يعملون فيهما.
فالنظرية التأويلية للترجمة تواقة الى فصل المشكلات التي تثيرها الترجمة عندما تكون اللغتان غير متساويتين وتستبعد علم اللغة التقابلي وتحليل النص عن حقل بحثها . وتهدف الى احداث ذات الاثر المعرفي والاحساسي لدى القارئ كما يحدثه النص الاصلي على قرائه . ويترتب على المترجم الذي هو قارئ للنص الاصلي وموضح للمعنى الذي توصل اليه ، ان يتبوأ المكانة المركزية في دراسة عملية الترجمة ، المكانة التي تمكنه من معرفة كوامن اللغات وخصوصيتها .
والمترجم الذي نحن بصدده الان ليس الفرد بكل ما يمتلكه من مواطن ضعف واهلية وخواص وقدرات وانما الموضوع نفسه القابل للترجمة ضمن عمومية النشاطات الفكرية التي ينجزها عندما يدرك النص ويعيد صياغته بلغة اخرى .
ترتكز نظرية الترجمة التأويلية على مبادئ عامة يمكن تطبيقها على جميع اللغات والتي نعمل جاهدين لاثباتها لاكبر عدد من اللغات . وبهذا تكون اطاريح شهادة الدكتوراة التي يعدها اثنان يكون الاول بينهما فرنسيا والاخر المانيا او انكليزيا او صينيا او اسبانيا او برتغاليا ويعمل الاثنان على اظهار خاصية عالمية للسياق التأويلي .

السياق التأويلي : Le processus interprétatif
من الاهمية بمكان ان نلحظ قبل كل شيء حقيقة تنص على انه ليس هنالك لغة نصب اعين المترجم بل هنالك رموز كتابية ولا يبدأ السياق التأويلي في الوهلة التي تتكامل فيها معرفته للمفاهيم اللغوية المتطابقة بل يبدأ عند بلوغ معرفته غير اللغوية للحقائق التي تعكس هذه المفاهيم . فانه من الملائم استخلاص سمة مميزة جدا هي وجود كلمات او عبارات منعزلة دون القول انها لا تسمح باي تأويل غير الذي يتضمنه تأويلها الخطي حسب المفاهيم اللغوية . وتعد الكلمات التي تكون نصا ما مفهومة وتدل على معنى اكثر دقة وابعد مدى من معناها الحرفي . فهي اكثر دقة بسبب تحيين الكلمات بحيث ان استعمالها بهذا السياق لا يمكن الا ان يدل على معنى محدد . اما بكونها ابعد مدى فان ذلك يعزى الى تنشيط المعرفة الملائمة للموضوع والمكملات المعرفية التي تلحق بالكلمات التي تمت ترجمتها الى واقع لتعطي معنى . ولم تحرز نظرية الترجمة التأويلية بتقديمها فكرة المكملات المعرفية لدى المترجم أي تقدم في مجال الترجمة الالية بسبب ان المعلومات الاضافية للنواحي اللغوية ضرورية للترجمة .

المكمّلات المعرفية : Les compléments cognitifs
ليس بمقدور احد سواءً أمترجما كان ام قارئا ان يعالج أي نص دون سابق معرفة ، ومهما بلغت المعلومات التي بحوزتنا عن العالم الذي نحيا فيه فانه من الضروري ان نكون على بينة من مؤلف النص الذي نواجهه لاول مرة وحتى النص الذي نجهل اصله ، ولا بد من الاشارة الى وجود بحوث معمّقة قليلة تعالج هذا الموضوع ، ونتيجة لعدم توافر المعلومات ذات الصلة الوثيقة وعدم اجادة اللغة بصورة تامة وربما عدم ورود بعض المفردات في القاموس فان عملية التواصل لا تتم الا بصورة جزئية ويمكن ان نلحظ ان المعنى امر فردي يتباين فيه ثراء المفردات بموجب المعرفة والخبرات الفردية . وفي الحقيقة فانه لكل واحد وحسب معرفته ورد فعله يعّد المعنى امرا خاصا ويدع مجالا واسعا يتقاسمه الشريكان في التواصل اللغوي . فالمترجم وسيط بين المؤلف الذي يروم الاتصال والقرّاء الذين يرومون الفهم ، فالمترجم يقع ضمن هذا المجال ، وان اعادة صياغته للنص بلغة اخرى تضع قرّاءه الذين يتعاملون مع النص المقدم لهم بموجب المكمّلات اللغوية الخاصة بهم ، في موقع باستطاعتهم كشف النص ولكن كل حسب ثروته المفرداتية او سطحيته اللغوية بحيث يجعل النص يقدم بصورة متماثلة لجمهور قراء النص الاصلي . فان عملية فهم النص اذن هي حالة عامة ، اما فهم المترجم فهي حالة خاصة ليس الا .

المعنى: Le sens
يُبنى فهم المعنى اذن بصهر اللغة التي تم تحيينها من قبل النص من جهة وما تم نقله للمعرفة الوثيقة الصلة بالموضوع لمتلقي الترجمة من جهة اخرى . وكما درسنا العملية العقلية التي تكّون المعنى حيث لم يتم عرض قاعدة الانطلاق : النص الاصلي لغة الهدف مما لا يؤدي الى ظهور جهود المترجم الفكرية الا بصورة جزئية .
ومن جهة اخرى تتفق الترجمة الشفوية بسهولة مع التمحيص المفصل للسياق اكثر منه في الترجمة التحريرية لان الكلام غالبا ما يكون عابرا وتختفي الاصوات بسرعة ولا يبقى سوى المعنى الذي يعبر عنه النص . ومن الاهمية بمكان ان نؤكد هنا ان التعبير عن هذا المعنى بلغة اخرى هو حصيلة صهر عنصرين هما المعاني التي تم تحيينها والمكملات المعرفية (ليدرر 1981) . ويسمح تسجيل الترجمة الشفوية بالمتابعة المباشرة من خلال اعادة صياغة الكلام بلغة اخرى ، وبهذا يكون فهم سياق الكلام والمدة التي استغرقها والتعديلات التي اجريت عليه انعكاسا مباشرا لفهم الترجمان لكلام اكثر من كونه نقلا من لغة الى اخرى .

وحدات المعنى : Les unités de sens
يبين الفحص الدقيق لحظة بلحظة للترجمة الفورية الناجحة كيف ان الاصوات تعبر عن جزء من الرسالة وربما تكون عرضة للنسيان السريع ، اذ ان معنى أي كلام متكون من لمسات صغيرة ومقاطع طويلة تقريبا يطلق عليها "وحدات المعنى" . ويتعذر قياس وحدات المعنى كميا اذ انها تبقى عند وجود عدد معين من الكلمات تدل على معارف ذات صلة وثيقة تعطيها وجودا معينا ويتم تنظيم وحدات المعنى الواحدة تلو الاخرى لما تم اخذه لكي تشكّل معنى تاما يمكن ان نستقيه عند انتهاء المتكلم من حديثه ، لذلك فان التأويل بالنسبة للفهم العام الذي يتم ادراكه واعادة صياغة كل وحدة معنى يبين في تفاصيل طبيعة سياق الكلام بالرموز الصوتية . ومن خلال ملاحظة القطعة من الاصوات الى المعنى فانه من المنطقي ان نستنتج ما يتم نقله من الشكل التعبيري الى المعنى . ويعطي التأويل الدليل على ان سياق عملية الترجمة يمر عبر ثلاث مراحل : الاولى فهم المعنى ، وقد لاحظنا سابقا كيف يتم ذلك في المرحلة الثانية التي هي تعويض الكلمات والعبارات التي اوجدت المعنى والتي تتم دونما اللجوء الى أي سند لغوي والمرحلة الثالثة هي التعبير عن المعنى بلغة اخرى .

تعويض الكلمات والعبارات : La déverbalisation
من الواضح للعيان انه يصعب اكتشاف المرحلة الثانية للتأويل في سياق الترجمة التحريرية اذ لا يمكن العثور عليها لانها كامنة في شعور المترجم لما اراد المؤلف ان يعبر عنه في نص معين . لذلك فانها اقل وضوحا في الترجمة التحريرية منها في الشفوية . ولذلك تستوجب الصورة الموجودة في النص الاصلي وبكل وسيلة البحث عن تطابق مباشر كثيرا ما يتعارض مع اكتشاف المرادفات المقنعة . اما فيما يتعلق باللغات التي تتضمن مصطلحات كثيرة فان عملية الترجمة تتم بمساعدة النسخ الا ان ذلك لا ينهي مشكلة ظهور اثارها والا فاننا كانما نتكلم الفرنسية بالانكليزية او نكتب العربية بالفرنسية وهذا ما يجعلنا نحذر
التأويل .

التعبير : L''expression
في هذه الحالة يكون عدم اعطاء اهمية للفظ بقدر المعنى لغرض ايجاد تعبير لا يشوبه صبغة اجنبية دليل على نجاح الترجمة . وفي الحقيقة لا تختلف اللغات في مفرداتها وقواعدها فحسب بل تتعدى الاختلافات هذه لتشمل الطريقة التي يعبّر متكلموها عما يجول في لبنات افكارهم . ومنذ سنوات خلت ، قمنا بتطوير الفكرة التي تنص على ان كل كلام هو صورة بلاغية ذات معنى يفرض صورا بلاغية مختلفة في لغات اخرى (ليدرر 1976) . ومن هنا جاءت الحاجة للمترجم الذي يروم إفهام القرّاء الذين لا يعرفون اللغة الاصلية ويفصل نفسه عن الطريقة التي تفرض بها اللغة تعقيداتها على تعبير المعنى ونقلها بصورة مباشرة ومقبولة الا انها مختلفة بصورة طبيعية عن الترقنة المباشرة .
اما المرحلة الثالثة لعملية الترجمة فهي اذن البحث عن تعبير يعطي معنى للاصل في صياغته وينجح في فصلها عن اللغة الاصل ولكن مع المحافظة التامة على استعمالات اللغة الاخرى .
السمة العالمية لنظرية التأويل :
Le caractère universel de la théorie interprétative
نعتقد ان النظرية التأويلية للترجمة صالحة للترجمة الوظيفية التي تشمل التقارير الاقتصادية والسياسية والتقنية ومذكرات العمل واضابير البيع التي لا تنطبق عليها الترجمة النثرية او الشعرية . وقد انصبت معظم بحوثنا حتى الوقت الحاضر وفي قسمها الاعظم على النصوص الوظيفية ، في حين لم يبد ان استعمالها يتعارض مع انواع اخرى من النصوص ما خلا بعض الاعمال المهيأة .
ويترتب علينا الاخذ بنظر الاعتبار ان تحويل عناصر لغوية من لغة الى اخرى ليست للترجمة وانما للترقنة التي تختلف اهدافها (جعل القارئ يشعر بخصوصيات النص رقم (2) عن لغة النص رقم (1) ) ، ومن ثم التعريف بنتيجة الترجمة كما فعلنا سابقا ، كما يسعى نص ما ليحدث عند القارئ ذات الاثر المعرفي والاحساسي الذي يتركه النص الاصلي عند قرائه باللغة الاصلية . وبصورة سابقة للترجمة ليس ثمة عوائق امام تطبيق النظرية التأويلية للترجمة على النثر او الشعر . ولا يكمن العنصر المحدد لنجاح هذه الانواع من الترجمة باللغة او باللغات وانما يكمن ذلك باذواق ومواهب الفرد الذي يقوم بالترجمة فان جميع الاطفال الذين يبدأون بتعلم اللغة لا يصبح جميعهم اساتذة في فن الخطابة . وايا كان بمقدوره الكتابة لا يمكن ان يكون كاتبا كما لا يمتلك بالضرورة أي مترجم المهارات الضرورية لبلوغ درجة الكمال في الكتابة وممارسة الترجمة النثرية او الشعرية بنجاح تام ، ومهما كان التفاوت الفردي بين المترجمين فان عملية الترجمة بمبدئها تهدف الى فهم وتعبير الناحية المعرفيةوالشعورية لاي نص من النصوص . اما الاختلافات فهي ضمن الفوارق الموجودة في فروع المعرفة والتي ربما تسمح بالترجمة التقنية التي تحتاج الى مواهب تؤدي بدورها الى الابداع الفني . ولا يعد ذلك دافعا لنظرية الترجمة حتى اذا كانت هذه النظرية متعلقة بها وانما يتعلق ذلك بنظرية الادب عامة.
وللاستنتاج حجمت نظرية الترجمة التأويلية وباقدام مشاكل تثير التندر للترجمة وكذلك الصعوبات اللغوية للمترجمين لعمل السياق التأويلي للانسان الذي يقوم بترجمة القضايا الجوهرية في منهجه.



د. حسيب الياس حديد
المصدر
http://www.alnoor.se/article.asp?id=24246