نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي
17 تشرين الأول (أكتوبر) 2007





نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعيقلة من المسلسلات العربية شهدت نفس النسبة العالية من إقبال المشاهدين والإجماع على متابعتها في سورية والعلم العربي عموما التي شهدها الجزء الثاني من مسلسل "باب الحارة" الذي عرض في رمضان الفائت في معظم الفضائيات العربية الرئيسية. وقبل أن تنتهي حلقات المسلسل أعلنت شبكة MBC أنها اشترت الحقوق الحصرية لعرض الجزء الثالث من المسلسل، في وقت يشكو فيه صناع الدراما السورية من حصار على إنتاجهم لأسباب تتعلق بالسياسة أكثر مما تتعلق بالفن. فما الذي جعل السوريون يجمعون على متابعة باب الحارة، بغض الطرف عن منابتهم الاجتماعية وتوزيعهم الديموغرافي والتعليمي والثقافي؟
أعتقد أن التعلق بباب الحارة هو نوع من النوستالجيا لعالم المفقود، ليوتوبيا مضت ولن تعود، لماض يستعيض به الفرد عما يعانيه في حاضره. بيد أن هذا العالم، مثله مثل أطلانتس، هو ببساطة عالم متخيل ومصنوع ولا يكرس الماضي الدمشقي في تلك الحقبة من التاريخ السوري الحديث.
لقد خلق مخرج باب الحارة عالما سحريا مختلقا، ونسبه إلى بيئة ميتة هي البيئة الدمشقية، وإلى إطار زمني هو سورية في الثلاثينات من القرن الفائت. ثم أقنع المشاهدين أن ذلك هو تاريخهم الذي يحق لهم الحنين إليه. ولكي يحقق ذلك، قام بخلق هذا العالم خلقا اصطناعيا. فبنى حارة متخيلة في الاستدوديو ( وهو أسلوب اتبعه منذ أن قدم العمل الذي أطلق اسمه عاليا "أيام شامية.") وصمم لها بابا جبارا، يفصلها كليا عن باقي الحارات الأخرى، غير الموجودة عمليا إلا من خلال أبو النار وعصابته. ثم جعل حارته المتخيلة عالما قائما ووحدة اقتصادية-اجتماعية-سياسية مستقلة. فالحارة لها سلطة تنفيذية هي العقيد أبو شهاب، وسلطة استشارية (تشريعية؟؟) هي أعضوات الحارة، وسلطة دينية هي شيخ الجامع ومؤسسته الدينية الجامع) والخيرية (صندوق الحارة.)
نحن إذن في عالم متكامل.هناك فرن للخبز بائع للخضار والفاكهة وحلاق (حكيم) يقوم بالحلاقة والمداواة وقهوة لتزجية الوقت وحكواتي في القهوة وحمام للنظافة والأعراس والمناسبات، وهناك أيضا بوابيري ومبيض وحارس ليلي وشباب شجعان للدفاع عن الحارة التي هي دوما على حق.
ولا تحتاج الحارة إلى شيء خارجها. وحتى السلطة القانونية (مخفر الشرطة تقع خارجها وليس لها تأثير مباشر فيها وعليها.)
أما شوارع لحارة فنظيفة وقريبة إلى القلب، وأبواب الحارة حانية قناديلها مؤاسية وبابها كبير، مهيب، مانع، يحمي الحارة وأهلها من أي اعتداء من قوى الشر الخارجية الممثلة بعصابة أبو النار.
هذا الخيال ليس واقعنا السوري قبل سبعين عام. ففي الثلاثينات من القرن الفائت، كان هنالك حركة سياسية نشطة، تعمل ليس على مستوى العصامة ولكن على مستوى البلد ككل. كان هنالك الكتلة الوطنية والدستور السوري ومعاهدة 36 وهاشم الأتاسي وعبد الرحمن الشهبندر. وكان هنالك مدارس ثانوية وجامعة سورية وأطباء ومحامون ومدرسون. وأهم من ذلك كله، كان هنالك بداية حركة نسوية بدأت تظهر وتتطور وتقوى. وكان عدد من النساء قد سفرن عن وجوههن، وذهبن إلى المدارس والجامعات واستعددن لنزع غطاء الرأس والخروج بالفساتين والمعاطف والتايورات الأوروبية بينما بدأ كثرة من الرجال بلبس البدلة وربطة العنق. وبدأت أحياء حديثة بالظهور، وتبدى مركز المدينة بشكله الأوروبي حول ساحة المرجة، وبنيت فنادق حديثة ومطاعم وبارات وأبنية طابقية حديثة، احتوت شققا ومكاتب. وكان ثمة محاكم حديثة ونواب عامون وقضاة، وأهم من ذلك قوانين!
وأنا لا أتحدث فقط من كتب لتاريخ، وإنما من خبرة عائلية. أمي من مواليد 1924، فهي إذن مؤهلة لتكن واحدة من صبايا باب الحارة. عندما تزوجت كانت في الرابعة عشرة من عمرها، وكانت ترتدي الملاية اللف التي ترتديها النسوة في باب لحارة. ولكنها بعد ذلك بفترة وجيزة، من القرن الفائت خلعت ذلك لكيس السود وسفرت عن وجهها وارتدت فساتين وبلوزت بنص كم في الصيف، وكانت محل احترام كل المدينة. وأتكلم هنا عن مدينة حمص، فكيف الحال إذن في مدينة أكبر وأكثر انفتاحا كدمشق؟
فلماذا إصرار المؤلف والمخرج إذن على إخفاء ذلك لجانب المدني لدمشق، من أجل إبراز ثقافة الحلاق-الحكيم والعقيد الحاكم و"أمرك ابن عمي."
أعتقد أن المؤلف والمخرج يلبيان رغبة متأصلة عند الحركة الإسلاموية في سورية، ولكن ايضا في البلدان العربية الأخرى، لتكريس الثقافة الذكورية المتخلفة عموما، وجعل هذه الثقافة جزءا من تاريخنا القسري. من هنا التركيز الكاريكاتوري على الطريقة التي يدير بها الرجل ظهره للمرأة عندما يخاطبها أو عندما يطرق باب جار من جيرانه، أو الطريقة التي يسير فيها الزكرتاوية الشباب مثل معتز، الشاب الذي يجب علينا أن نحبه من طريقة مشيته وشهامته ورجولته فهو ما عنده إلا "الشخت" (أي الذبح) على البالوعة إذا عرف أن أخته تحدثت مع ابن الفران من وراء الباب، أو الطريقة التي تحدث فيها المرأة رجلها وكلها خوف من أن يثور عليها، أو طريقتها في التعبير عن عجزها حين تقول باستسلام كامل: " شو فيني أعمل أنا حرمة والكلمة للرجّال."
هذه الثقافة الذكورية لم تكن موجودة في "أيام شامية" و"ليالي الصالحية" أو "الخوالي." بل إنها لم تكن موجودة حتى في الجزء الأول من "باب الحارة." ولكننا على الأرجح سنجد المزيد منها أكثر فأكثر. والسيئ أن يستلهم الرجال هذه الثقافة الآن، والأسوأ أن تستلهمها النساء، فيعدن على حياة "أمرك ابن عمي و"الكلمة للجال."


المصدر
http://www.voltairenet.org/article152164.html